الصفحة الرئيسية  |  البرنامج   |   المشاركين  |  الأخبار |   الكلمات   |   ألبوم الصور   |  الفيديو   |  في الصحافة   |   مواقع مهمة   |  اتصل بنا
   

ضرورة إعلان ميثاق شرف عالمي لعدم الإساءة للأديان من خلال وسائل التواصل الاجتماعي
سماحة الشيخ الدكتور تيسير التميمي
قاضي قضاة فلسطين
رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي (سابقاً)

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ؛ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وعلى آله الطيبين الطاهرين ؛ وصحبه ومن تبعه وسار على نهجه إلى يوم الدين ،
وبعد ؛
فقد اخترت المشاركة بهذا البحث في المؤتمر التاسع لحوار الأديان الذي يعقده مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان لهذا العام بعنوان { وسائل التواصل الاجتماعي وحوار الأديان ... نظرة استشرافية } أتناول فيه ضرورة إعلان ميثاق شرف عالمي للإعلاميين والمدونين على صفحات التواصل الاجتماعي يلتزمون من خلاله باحترام ثقافة الآخر ويتجنبون المساس بمقدساته ورموزه الدينية بدعوى حرية التعبير.
ولتحقيق الهدف من هذه البحث ارتأيت أن أبنيه على الخطة التالية :
المقدمة : وهي تمهيد للبحث يتضمن سبب اختيار الموضوع
الفصل الأول : ويتناول أهمية إصدار ميثاق الشرف الإعلامي العالمي
الفصل الثاني : ويتناول أهمية استصدار تشريع دولي يجرم الإساءة إلى الأديان
الخاتمة : وتتضمن النتائج التي أظهرها البحث
أدعو الله سبحانه أن أكون قد وفقت إلى الصواب

الفصل الأول
أهمية إصدار ميثاق الشرف الإعلامي العالمي

للإعلام مكانة متميزة ومرموقة في العالم اليوم ، ويتعاظم دوره وهيمنته على العالم لأنه يشكل حضوراً فاعلاً في المجتمع ، ويتساوى مع أهم مؤسسات الدولة التي تسهم في المحافظة على مقومات السيادة والاستقلال الوطني ، فهو يدخل البيوت والقلوب ، ويغير تفكير المواطنين صغاراً وكباراً ، وقد يمارس عملية تخريب واسعة النطاق من خلال إفساد الأعراف والأذواق والمفاهيم ، ويعيد صياغة العقول والمشاعر بصورة بالغة السوء .
وانطلاقاً من هذه المكانة فقد أصبح الركن الثالث من أركان بناء الدولة ومقومات سيادتها بعد السياسة والاقتصاد ، ومرد ذلك إلى تطور وسائل الاتصال وسرعة انتشارها واستقطابها الناس ، وإلى تزايد تأثيرها في التنشئة الاجتماعية وصياغة فكر الأمة وبناء شخصيات أفرادها ، ولتصوير هذه المكانة هناك مقولة بأن [ من يملك الإعلام اليوم فقد ملك العالم ] ، ومرد ذلك إلى قدرته الكبيرة على التأثير ، وعلى صنع شيء من لا شيء ، وخلق جو كامل من الأفكار والمشاعر والقيم والاهتمامات والاتجاهات حول أمور هامشية . وفي المقابل قدرته على تجاهل أكثر القضايا والأزمات والنكبات حيوية وشناعة لإسدال الستار عليها من خلالها تهميشها والتعامي عنها .
ولذا فقد وجهنا الله سبحانه إلى أسس وقواعد لتنظيم الإعلام ؛ منها على سبيل المثال حصره وحصر أدواته في يد الجهة الرسمية ، فهي الأعلم والأعرف بالسياسات التي ينبغي أن يتبناها والتوجيهات التي يجب أن يسترشد بها ولا يخرج عن تعاليمها ، قال تعالى { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } النساء 83 .
ففي الآية الكريمة إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها بين المواطنين ، مما يسهم في سريان الشائعات والإشاعات ، وقد لا يكون لها صحة ، فالواجب عليه ألاَّ يفعل ذلك قبل أن يستخرجه من معادنه وأن يتبينه من مظانه .
فالإعلام سلاح فعّال لكل من يعرف كيف يستخدمه ، وتبرز قيمته من خلال قدرته على توجيه الرأي العام نحو مسلك معين أو مفاهيم معينة ، فإننا نرى ونلمس دور المؤسسات الإعلامية العالمية التي تقدم اليوم مادة إعلامية موجهة بحيث تعمل على تمرير الأفكار والمعتقدات المرسومة التي يريدها القائمون على رسم السياسات فيها .
ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك محاولات بعض المؤسسات الإعلامية العالمية المرئية والمسموعة والمقروءة نشر فكر (الإسلام فوبيا) القائم على الخوف من الإسلام في الدول الغربية ، وتشويه صورة الإسلام والمسلمين من خلال الإساءات لرموزه المقدسة بشتى الصور كالرسوم المسيئة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكمهاجمة حجاب المرأة المسلمة .
وانتهجت بعض مواقع التواصل الاجتماعي عبر شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) والمنتديات الشخصية المنهج ذاته في الإساءة المتواصلة للإسلام وأركانه ومفردات عقيدته كالقرآن الكريم والكعبة المشرفة والسنة النبوية ، والتعرض لأمهات المؤمنين والصحابة بالازدراء وإلصاق المثالب بهم .
وأمام هذا الطوفان الإعلامي الجارف الذي يجتاح العالم ويحمل الغث والسمين ، فإننا نريد إعلاماً يحمل أهدافاً نبيلة ، تتمثل في التزام القيم الإنسانية والأخلاقية التي أجمع عليها العالم ؛ كاحترام حريات الآخرين ـ وبالأخص المخالفين ـ واحترام حقوقهم الشخصية وعدم انتهاك كراماتهم أو ازدراء معتقداتهم ، وتجنب أسلوب التجريح بكل صوره وأشكاله ، مما سيسهم بإيجابية كاملة في تحقيق الاستقرار والتوازن في حياة الأمة بل وحياة البشرية كلها ، وسيخلصها نهائياً من آثار الازدواجية والتناقض والصراع والتبعية .
ومن هنا تأتي أهمية الالتزام بمعايير ومقاييس تضبط العمل الإعلامي بأكمله مهما كان نوعه وشكله ؛ بحيث تصبح مرجعية يحتكم إليها عند النشر والعرض على الجمهور المتلقي للإعلام ، فالإعلام الناجح لا يضع نصب عينيه فقط تشجيع حرية التعبير وحرية الكلمة باعتبارها المقدمة الأولى للديموقراطية ؛ وباعتبارها مكسباً حضارياً تحقق عبر الكفاح الإنساني الطويل ، وباعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الحريات الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، فإن هذه الحرية لا تعني أبداً إطلاق العنان للألسنة وحصادها دون قيود ، بل تعني المسؤولية الكاملة عن كل ما يصدر عن ذوي الأقلام السيالة حتى يعلموا أن حريتهم تتوقف وتنتهي عندما تبدأ حدود وحريات الآخرين .
ولعل ميثاق الشرف الإعلامي إحدى صور هذه الضوابط التي تعمل على توجيه وترشيد المواد الإعلامية المعروضة للناس .
ويمكن أن تكون الأفكار التالية من أبرز المبادئ التي من الممكن أن يتضمنها ميثاق الشرف الإعلامي الإسلامي المقترح :
* الحرص على الأصالة والمعاصرة من خلال التمسك بما يربطنا بجذورنا وقيمنا الإسلامية الدينية والأخلاقية العريقة الثابتة والمثل العليا المتراكمة في التراث البشرى ، والحرص في الوقت ذاته على مواكبة العصر والانفتاح على الحضارة الإنسانية والبعد عن الانغلاق ، وتعميق أواصر التعارف بين جميع الشعوب استحضاراً لقوله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } الحجرات 13 .
* التزام المصداقية والموضوعية : وذلك بأن ننشد الحقيقة المجردة في خدمة الحق والخير ، وتقديم الحقيقة الخالصة للمواطن والهادفة إلى خدمة قضاياه ، والتأكد مــن صحة الأخبار والمعلومات ودقة مصادرها قبـل إذاعتها ، وتجنب نشر الأخبار الكاذبة أو المشكوك فى صحتها أو ترويج الشائعات المضللة ، وهذه هي ثقافة التبيُّن التي تعلمناها من قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } الحجرات 6 ، وضرورة الامتناع عن اعتماد الوسائل غير المشروعة فى الحصول على المواد الإعلامية ، والحفاظ على سرية مصادر الأخبار والتعليقات إلاَّ ما يمس الأمن الوطنى والقومى ، وفي هذه المسألة يعتبر الافتراء أو الاتهام دون دليل خروجاً على الميثاق ومخالفة لأخلاقيات مهنة الإعلام .
* تمثل لغة الحوار : باتباع الأسلوب العف السمح القائم على الحكمة والموعظة الحسنة ومجادلة الآخر بالتى هى أحسن بعيداً عن التعصب والسخرية والتهريج ، وتجنب الطعن الشخصى والقذف والتجريح والمهاترات فالرسول صلى الله عليه وسلم ‏{ لم يكن ‏سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً } رواه البخاري ، وقال فيما رواه عنه الترمذي { إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } صححه الألباني ، وبالحرص على رفض مبادئ التمييز العنصري أو العصبية الدينية المقيتة بجميع أشكالها ، والعمل على دعم النضال في سبيل المبادئ العادلة وتكريس حق الشعوب في تقرير مصيرها .
وفي هذا السياق يجب الحرص على سلامة اللسان العربي وبلاغته ، وصيانته من مزالق اللغات العامية واللهجات المحلية ، ولي الألسنة بالمفردات العجمية والأعجمية ، وذلك بهدف نشر هذا اللسان بين أبناء الأمة ترسيخاً للوحدة ودعماً للتفاهم بينهم .
* الحرص على تعميق التضامن في العالم الإسلامي : وذلك بالسعي إلى شد الأواصر وتعميق التفاهم والتفاعل والتبادل مادياً ومعنوياً في المجتمع العربي والدولي ، وبالحرص على دعم التفاهم والتعاون بين الدول الإسلامية ، وتأكيد روح الأخوة بين أبناء الأمة الإسلامية ، وذلك تمثلاً لقوله تعالى { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } الحجرات 10 ، وقال صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } رواه البخاري ، وإبراز الصورة المشرقة للإسلام وإسهام المسلمين ودورهم فى إثراء الحضارة الإنسانية ، وقدرتها على العطاء لقيامها على العنصرين المادي والأخلاقي معاً .
* حماية المجتمعات الإسلامية من التيارات الفكرية المضللة : وذلك بالتصدى لمحاولات تشويه صورة الإسلام أو تقويض وحدة المسلمين أو النيل من الهوية الإسلامية ، والاهتمام بتحصين متلقي الإعلام بالتوعية واتباع الأساليب العلمية المقنعة والمؤثرة في مواجهة هذه التيارات الهدامة ، فوسائل الإعلام تتحمل مسؤولية خاصة تجاه مواطنيها بالعمل على تكامل شخصياتهم وإنمائها فكرياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً ، وتنمية إحساسهم بواجباتهم تجاه مجتمعهم ووطنهم وأمتهم ، والامتناع عن توجيه الحملات ذات الطابع الشخصي أو العنصري ، وعدم تحويل الإعلام إلى أداة للتحريض على استعمال العنف ، أو الانحراف بالجدل عن جادة الاعتدال حرصاً على قدسية الرسالة الإعلامية وشرفها .
* الحذر من الإعلانات غير المنضبطة والبعيدة عن المنهجية : وذلك لآثارها السلبية على الأخلاق والقيم والسلوكيات الإسلامية ؛ هذا مع أهميته الكبيرة فى التجارة ودوره المتعاظم في إنعاش الاقتصاد وتحريك الأسواق وزيادة الأرباح .
هذا بالإضافة إلى ضرورة العمل على تجنب الاقتصار على المردود المادي فقط لهذه الإعلانات ، بل لا بد من تبني السياسات الاقتصادية البناءة ، وتشجيع الإنتاج الوطني ، ودعم الأيدي العاملة المحلية وتوفير فرص العمل للشباب .

ولكن ؛ وعلى الرغم من أهمية ميثاق الشرف الإعلامي الإسلامي المنشود ـ سواء على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي ـ وعلى الرغم من اعتباره مدونة سلوك ذاتية وأكثر إلزامية للإعلاميين العرب والمسلمين من التشريعات المفروضة عليهم من السلطة الحاكمة ؛ فإن لي ولغيري أيضاً أن أتساءل :
* ما جدوى هذا الميثاق على المستوى العالمي !
* وما مدى إلزامية هذا الميثاق للإعلاميين والمؤسسات الإعلامية العالمية !

ويمكن أن أعرض هذا التساؤل بصورة أخرى :
صدرت عن المجتمع الدولي مواثيق واتفاقيات عالمية عديدة ، منها مثلاً : الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، واتفاقيات جنيف الأربعة وملحقاتها ، والقانون الدولي الإنساني ، وغيرها وغيرها ، فما مدى الالتزام العالمي بها ـ وبالأخص الدول الموقعة عليها ـ !
إننا نلمس ـ ومن خلال تجاربنا التي عايشناها على مرِّ عقود طويلة مضت ـ بأن مثل هذه المواثيق وضعت حفظاً لمصالح الشعوب القوية في مواجهة الشعوب الضعيفة ، وأنها لا تعدو كونَها شعاراتٍ ليسَ لها أصولٌ تستندُ إليها ، وليس لها صدىً في التطبيقِِ العمليِّ بينَ الناسِ ، ونلاحظُ أنَّها عندَ تطبيقِها تُستَغَلُّ في ظلمِ الإنسانِ لأخيهِ الإنسان ، وتُطَبَّقُ لتبريرِ هيمنةِ القوى الاستعماريةِ على العربِ والمسلمينَ وأبناءِ الدولِ الفقيرةِ لصالحِ هذه القوى العالميةِ وحلفائِها ، فعلى سبيل المثال لا الحصر :
* ما مدى الْتزام السلطات الإسرائيلية المحتلة بهذه المواثيق وبنودها ونصوصها ومقتضياتها في ممارساتها وإجراءاتها ضد الشعب الفلسطيني الواقع في براثن الاحتلال الغاشم ! كانتهاك حرمات المقدسات وإحراق المصاحف والمساجد وكتابة الشعارات العنصرية على جدرانها ضد الفلسطينيين ، وإجراءات التطهير العرقي في مدينة القدس ، وإطلاق يد قطعان المستوطنين في الاعتداءات اليومية على الفلسطينيين وممتلكاتهم ! وما موقف المجتمع الدولي من هذه المخالفات الصارخة ! وهل حاسبها يوماً ! أو هل يفكر في ذلك يوماً !
* ما مدى الْتزام الدول الغربية ـ وبالأخص الدول والحكومات الموقعة على هذه المواثيق ـ في تعاملها مع الدول والشعوب الإسلامية ! وما موقف شعوبها وحكوماتها المعاصرة من الاستعمار وسلوكياته في القرن الماضي تجاه شعوب وأراضي الدول التي وقعت تحت نيره لسنوات طويلة ! هل يفكر في الاعتذار إليها عن كل الإساءات والمظالم والجرائم التي ارتكبها ضدها ! أو عن عشرات الألوف من أبنائها الذين أزهقت أرواحهم بدم بارد !
* ما موقف العالم من المؤسسات والأشخاص الذين صدرت عنهم الإساءات المتكررة ضد الإسلام وضد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وضد كتابه الكريم ، وضد المسيحية ونبيها ورموزها ! هل يمكن أن يلاحقهم كما يلاحق أي مسيء لليهودية (باسم معاداة السامية) أو منكر لجرائم ومذابح النازية

وسبق أن تم إعلان ميثاق إعلامي جاء تنفيذاً لميثاق التضامن العربى الصادر عن مؤتمر القمة بالدار البيضاء في 15/9/1965 ، وانطلاقاً من التوصيات والقرارات الصادرة عن مجلس جامعة الدول العربية ومجلس وزراء الإعلام العرب ، وعملاً بالمواثيق والاتفاقات الدولية ، وإسهاماً من الإعلام في تعبئة الرأي العام العربي وصولاً إلي تحقيق الوحدة العربية ، وحفاظاً على الرسالة الإعلامية وسموّ أهدافها الوطنية والقومية والإنسانية ، فهل التزمت به وتبنته كافة الدول العربية ! أم أن هناك منها من تحفظت على بعض بنوده وأحجمت عن توقيعه !

فالمطلوب إذن ـ من وجهة نظري وفي موازاة ميثاق الشرف المنشود ـ إصدار تشريع دولي ملزم لجميع الدول وأفرادها ؛ بحيث يلاحق كل من يخالف نصوصه ويخرج على مقتضياته تحت طائلة المسؤولية القانونية والملاحقة القضائية في محكمة الجنايات الدولية ، وهذا ما سأبينه في الفصل التالي ...

الفصل الثاني
أهمية استصدار تشريع دولي يجرم الإساءة إلى الأديان

ما هي مسوغات المطالبة بقانون دولي يُـجَرِّمُ الإساءة إلى المقدّسات الدينية ، ويضع حداً للسخرية من الأديان وسب رموزها والمساس بأركانها !
لا يخفى على أحد أن فتح الباب على مصراعيه أمام من يتطاول على الأديان ويسيء إلى المقدسات يمثل خطورة بالغة على الإنسانية جمعاء ، وتشتد خطورة هذا السلوك القبيح المنبثق من التعصب والتمييز العنصري المبني على المعتقد بالإمعان فيه والتسابق إليه والتمسك به دون توقف ، وبنشره على نطاق واسع عبر وسائل الإعلام المتعددة كالصحف والفضائيات ومواقع الإنترنت ، مما يعني أن المقصود بها إيذاء أصحابها والمعنيين بها في مقدساتهم وتحقيرها والانتقاص منها ، لا مجرّد التعبير عن الآراء الشخصية .
ولتفادي ذلك فقد سلك الإسلام طريقاً يوصل البشرية إلى الأمان والاستقرار والوقاية من هذه العواقب والمخاطر ، ويتضح هذا الطريق باستعراض بعض ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من مبادئ وأسس تقوم على احترام الأديان حتى غير السماوية منها :

* فقد منع الله سبحانه الإساءة إلى آلهة الآخرين ، قال تعالى { َلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } الأنعام ١٠٨ ، تؤكّد الآية الكريمة عدم جواز سبّ الأوثان أو الصلبان التي تُعبد من دون الله سبحانه ، ففيها نهيٌ صريحٌ عن سبّ الآلهة الباطلة التي تعبد من دون الله بغير حق ؛ وبالأخص إذا خيف من أتباعها أن يَسُبوا الإسلامَ أو النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو أن يسبوا اللهَ عز وجل !

وما ذاك إلا لأن السبّ لا تترتَّب عليه أية مصلحةٌ دينيّة ؛ فالمقصود من الدّعوة الاستدلال على إبطال الشرك ، وإظهار استحالة مشاركة الأصنام لله تعالى في الألوهية ، يضاف إلى ذلك أنه هذا السب يُحمي غيظ أتباعها ويثير أحقادهم ويزيد تصلّبهم ، وفي ذلك منافاة لمراد الله من الدّعوة ، فقد قال لرسوله صلى الله عليه وسّلم { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكّ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوعظة الحسنة وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } النحل ١٢٥ ، وقال سبحانه لسيدنا موسى وهارون عليهما السّلام لما أرسلهما إلى فرعون { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } طه ٤٤ ، فصار السبّ بذلك عائقًا عن المقصود من البعثة بل سبباً للمفسدة ومانعاً من تحقيق المصلحة .
وفي سبب نزول هذه الآية الكريمة روى الطبري في تفسيره أن قريشًا عزمت أمرها على مقابلة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم لتطلب منه إقناع ابن أخيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يكفَّ عن التعرض لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فلما دخلوا على أبي طالب وطلبوا منه ما اتفقوا عليه كلَّم أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وطلب منه أن يكف عن التعرض لآلهتهم ، وأن يدعهم وآلهتهم كي يدعونه ، فقال صلى الله عليه وسلم { يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوني بالشمس فيضعوها في يدي ، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها } فغضبوا وقالوا لتكفَّنَّ عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك . فذلك قوله سبحانه { فيسبوا الله عدواً بغير علم } .

* لا يمكن أبداً اعتبار الانتقادات القرآنية الموجهة إلى المسيحية أو اليهودية أو الوثنية وذكر نقائص آلهتهم من باب السخرية أو الإساءة إليها أو إلى أتباعها ، فقد ورد في مقام المناظرة العقلية والمنطقية ليدلّل على انتفاء إلهيتها ، وهذا ليس من الشّتم ولا من السبّ ، فالسبّ هو الانتقاص والتحقير بقصد الإيذاء ، ولا يأتي في سياق المجادلة التي يقصد منها التعبير عن الرأي والمعتقد ، ومثال ذلك قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } الأعراف 194-195 .
ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستبح دماء النصارى كلهم ولا اليهود كلهم ، ولا طالب بعقوبتهم على ما احتوت كتبهم المقدسة من إساءات إلى الله تعالى وأنبيائه ورسله ، هذا على الرغم من بيان القرآن الكريم مدى انتقاصها جلال الله تعالى وكمال صفاته ، فقد وصف سبحانه مثلاً بشاعة مقالة التثليث وعقيدة البنوة التي نسبتها المسيحية لله تعالى بقوله { قَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } مريم ٨٨ - ٩٢ ، ومع ذلك لم يحاسبهم عليها ولم يجرمهم على الإيمان بها .
بل إن الإسلام دعا إلى ما هو أبعد من ذلك ، دعانا إلى التعايش الكامل معهم رغم الاختلاف ما داموا يقيمون شروط التعايش وينضبطون بمتطلبات المواطنة ، فقال تعالى { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } الممتحنة ٨ -9 .
وأمرنا في مقام المناظرة أن نجادلهم باللفظ الحسن والأحسن ، والمجادلة هي الكلامٍ الذي لا انتهاكَ فيه لعرضٍ ولا سفكًا لدم ولا تسفيه لفكر أو دين ومعتقد ، قال تعالى { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } العنكبوت ٤٦ .
وهذا نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قدوتنا الأولى يراسل الفرس والروم ، ويعامل الكفار والمنافقين واليهود والنصارى ويلقاهم ويحادثهم ؛ فهل أثر عنه فحش القول أو سوء الحديث معهم ! هل قال لهم يوماً أنتم كفارٌ ملعونون . وها هو يكتب إلى هرقل ويصفه بما يستحق من مكانة مناسبة في قومه قائلاً { إلى هرقل عظيم الروم } .

الخاتمة

إن كل ذلك من أعظم الدواعي لاستصدار قانون دولي يحفظ مشاعر الناس ويحترم أديانهم ومعتقداتهم ، فإن مهاجمتها والسخرية منها بأية صورة كانت هي نيلٌ من أتباعها وعدوان على حرياتهم وكرامتهم ، وحماية للمجتمعات البشرية من الانزلاق إلى الصراعات الطائفية والانجرار إلى مخاطر الحروب الدينية الطاحنة التي تمزق العالم شر ممزق .
وهنا أؤكد أنه لا بد لنا أن نبادر إلى المطالبة بهذا التشريع ، وأن نبادر بطرح مواده وتعريفاته ونشارك في صياغاته ، لئلا يستغل الغرب وغيره من القوى المتنفذة والمهيمنة هذه المساعي فيحاول صياغته على هواه وبما يناسب توجهاته السياسية والفكرية على غرار ما فعل في تعريف الإرهاب ، فقد تمت صياغته بحيث اشمل على مقاومة الاحتلال وغيرها من وجوه الدفاع عن الدين والوطن والحقوق المشروعة والقضايا العادلة .
وأؤكد أيضاً أنه لا بد من استخدام كافة وسائل الضغط لإصدار هذا القانون الذي يلاحق كل من يسيء بأي شكل من الأشكال إلى المكونات الدينية والقومية للشعوب ـ على السواء ـ أو رموزها ومقدساتها ، وبالأخص أن هناك سوابق لإصدار مثل هذه القوانين ، ففي سنة 1996م حكمت المحكمة الأوروبية بعدم شرعية عرض فيلم يسيء لسيدنا عيسى عليه السلام ، كما أن الغرب يلاحق من يتبنى معاداة السامية ، وتوجد تشريعات وعقوبات لا يسقطها التقادم ضد من ينكر الهولوكوست وهذا يدل على أن للغرب مقدسات ، وأنه ملزم وفق القانون باحترام مقدسات الآخرين .
ولا بد كذلك من مناقشة مبدأ حرية الصحافة ووضع حدود لها بحيث تقف عند حريات وحقوق الآخرين ، فحرية التعبير لا تبرر الطعن في الدين ، والشعور بالمسئولية يجب أن يلازم التمسك بحرية الصحافة ، بعيداً عن ازدواجية المعايير التي يستخدمها الغرب في التعامل مع قضية حرية التعبير .
ولا بد أيضاً من مطالبة المجتمع الدولي والأمم المتحدة بالتصدي لسياسة الكيل بمكيالين التي تمارسها الدول الكبرى فتضغط على الشعوب المدافعة عن حريتها واستقلالها وحقوقها المغتصبة باتهامها بالإرهاب ، وتضغط على وسائل الإعلام المدافعة عن حقوق شعوبها وأوطانها فتتهمها بالتحريض على العنف .

وأخيراً :
إن على أصحاب مواقع التواصل الاجتماعي والمدونين فيها على وجه الخصوص عدم التقليل من قيمة الإنسان ، واحترام الآخر وتبني ثقافة الحوار الإيجابي ، وتقديم المصلحة العامة لأبناء الأمة على المصالح الخاصة مهما كانت ، والعمل على تعميق الإيمان بالحرية على أنها هبة إلهية ثمينة للإنسان كل الإنسان ، وإشاعة التعامل بقيم الإخاء والمحبة والمساواة والعدل والتسامح والتضامن والأمن والسلام والاستقرار ، وذلك من خلال المبادرة بمحاولة اقتراح ميثاق شرف إعلامي على المستوى المحلي لحين إصدار ميثاق عالمي يتبناه المجتمع الدولي ؛ أو العالم الإسلامي على أقل تقدير .

   
يفتتح مؤتمر الدوحة التاسع لحوار الأديان أعماله الاثنين 24 أكتوبر في فندق الشيراتون في الدوحة، قطر، باشتراك أكثر من مئتي شخصية دينية و أكاديمية من خمسة و خمسين بلداً.
يتطرق المؤتمر هذه السنة إلى موضوع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الحوار بين الأديان، عبر جلسات وورش عمل تمتد لثلاث أيام متواصلة.
يعقد مؤتمر الدوحة التاسع لحوار الأديان بإشراف مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان و اللجنة الدائمة لتنظيم المؤتمرات
.
تنبيهات بريدية  
للحصول على آخر الأخبار والتحديثات من فضلك أدخل عنوان بريدك الإلكتروني